الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.البلاغة: حفلت هذه الآيات بأفانين شتى من البلاغة والبيان وسنسهب فيها بعض الشيء جريا على ما درجنا عليه في هذا الكتاب وسنوزع هذه المباحث نجوما متتالية.1- التشبيه البليغ في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} والمراد به المضمر الأداة وقد سبق ذكره مع أقسام التشبيه وانما سمي بليغا لحذف واسطة الأداة ولو جازته بسبب هذا الحذف، وقد تكلم علماء البيان مطولا في هذا التشبيه وحاولوا تجسيد الكيفية التي ساغ فيها هذا التشبيه لأن النور كما هو معلوم كيفية أو عرض يدرك بالبصر فلا يصح حمله على الذات المقدسة، وأحسن ما يقال فيه أن التشبيه جار على التقريب للذهن، أي: به تعالى وبقدرته أنارت أضواء السماء والأرض واستقامت أمورها لأن ظهور الموجودات حصل به كما حصل بالضوء جميع المبصرات، أو أنه على التجوز أي منور السماء والأرض، أو بتقدير مضاف كقولك زيد عدل أي ذو عدول.2- التشبيه المرسل في قوله: {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} الآية فقد جاء التشبيه هنا بواسطة الأداة وهي الكاف، والمراد أن النور الذي شبه به الحق نور متضاعف قد تناحر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم تبق بقية مما يقوي النور، واختلفوا في هذا التشبيه هل هو تشبيه تمثيلي أي مركب قصد فيه تشبيه جملة بجملة من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء بل قصد تشبيه هداه وإتقانه صنعته في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة من النور الذي تتخذونه وهو أبلغ صفات النور عندكم، أو تشبيه غير تمثيلي أي غير مركب قصد فيه مقابلة جزء بجزء، وأجاز القرطبي الوجهين وهذا نص عبارته:قوله مثل نوره أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن والدلائل تسمى نورا وقد سمى اللّه تعالى كتابه نورا فقال: {وأنزلنا إليكم نورا مبينا} وسمى نبيه نورا فقال: {قد جاءكم من اللّه نور وكتاب مبين} وهذا لأن الكتاب يهدي ويبين وكذلك الرسول، ووجه الاضافة إلى اللّه تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها، وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من المثل به بل وقع التشبيه فيه لجملة بجملة وذلك أن يريد مثل نور اللّه الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس فمثل نور اللّه في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر.وأبدع الكرخي في تحديده هذا التشبيه التمثيلي فقال:ومثل اللّه نوره أي معرفته في قلب المؤمن بنور المصباح دون نور الشمس مع أن نورها أتم لأن المقصود تمثيل النور في القلب والقلب في الصدر والصدر في البدن بالمصباح والمصباح في الزجاجة والزجاجة في القنديل وهذا التمثيل لا يستقيم إلا فيما ذكر أو لأن نور المعرفة له آلات يتوقف هو على اجتماعها كالذهن والفهم والعقل واليقظة وغيرها.ولأن نور الشمس يشرق متوجها إلى العالم السفلي ونور المعرفة يشرق متوجها إلى العالم العلوي كنور المصباح، ولكثرة نفع الزيت وخلوصه عما يخالطه غالبا وقع التشبيه في نوره دون نور الشمع مع أنه أتم من نور المصباح.3- الطباق: في قوله تعالى: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} وقد تكلم علماء البيان كثيرا عن هذا الطباق والمقصود منه، قال الزمخشري:وقيل لا في مضحى ولا في مقنأة وهو المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لا خير في شجرة في مقنأة ولا نبات في مقنأة ولا خير فيهما في مضحى وقيل ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط بل تصيبها بالغداة والعشي جميعا فهي شرقية وغربية.ولابن الأثير كلام لطيف في هذا الصدد قال: أما تمثيل نور اللّه تعالى بمشكاة فيها مصباح فإن هذا مثال ضربه للنبي صلى اللّه عليه وسلم ويدل عليه أنه قال: {توقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية} وإذا نظرت إلى هذا الموضع وجدته تشبيها لطيفا عجيبا وذاك أن قلب النبي صلى اللّه عليه وسلم وما ألقي فيه من النور وما هو عليه من الصفة الشفافة كالزجاجة التي كأنها كوكب لصفائها وإضاءتها، وأما الشجرة المباركة المباركة التي لا شرقية ولا غربية فانها عبارة عن ذات النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنه من أرض الحجاز التي لا تميل إلى الشرق ولا إلى الغرب وأما زيت هذه الزجاجة فإنه مضيء من غير أن تمسه نار والمراد بذلك أن فطرته فطرة صافية من الأكدار منيرة من قبل مصافحة الأنوار.4- التنكير: في تنكير قوله: {نور على نور} ضرب من الفخامة والمبالغة لا أرشق ولا أجمل منه فليس هو نورا واحدا معينا أو غير معين فوق نور آخر مثله، وليس هو مجموع نورين اثنين فقط بل هو عبارة عن نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحد معين. وقد استهوى هذا التعبير شعراءنا العرب فرمقوا سماءه، قال أبو تمام يصف غربته في مصر:وقال أبو الطيب المتنبي: وقال شوقي في العصر الحديث يرثي المرحوم فوزي الغزي أحد أعلام دمشق: 5- تشابه الأطراف: وهو أن ينظر المتكلم إلى لفظة وقعت في آخر جملة من الفقرة في النثر أو آخر لفظة وقعت في آخر المصراع الأول في النظم فيبتدىء بها... تأمل في تشابه أطراف هذه الجمل المتلاحقة {اللّه نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنه كوكب دري} ومن أمثلة الشعر في قول ليلى الأخيلية في الحجاج بن يوسف: وجميل قول أبي تمام: وينسب لأبي نواس قوله: وقد يكون تشابه الأطراف معنويا وهو أن يختم المتكلم كلامه بما يناسب ابتداءه في المعنى لا في اللفظ كقول محمد بن عبيد اللّه السلامي: فالرشق في قافية البيت الثاني يناسب السهام في أوله.وجميل قول السري الرفاء: فالسجود مناسب للعابد في أول البيت.وبلغ ابن الرومي الغاية في وصف مغنية: فالأذن تناسب ذكر الغناء في أول البيت.استدراك على بعض النقاد:هذا وقد خفيت على بعض علماء البيان أسرار التشابه في الأطراف فجزم بأنه إذا ذكرت اللفظة في أول كلام يحتاج إلى تمام فينبغي أن تعاد بعينها في آخره ومتى عدل عن ذلك كان معيبا ثم مثل ذلك بقول أبي تمام وقول أبي الطيب المتنبي فقال: إن أبا تمام أخطأ في قوله: فحيث ذكر الرجاء في صدر البيت كان ينبغي أن يعيد ذكره أيضا في عجزه أو كان ذكر الآمال في صدر البيت وعجزه وكذلك أخطأ أبو الطيب في قوله: فإنه قال: إني لأعلم واللبيب خبير وكان ينبغي أن يقول: الي لأعلم واللبيب عليم ليكون ذلك تقابلا صحيحا.هذا ما ذكره الناقد وليس بشيء لأن المعتمد عليه في هذا الصدد أنه إذا كانت اللفظة في معنى أختها جاز.6- المجاز العقلي: في قوله: {يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} فقد أسند إلى القلوب والأبصار التقلب والاضطراب من الهول والفزع.وفي قوله: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} فن الغلو وهو الافراط في وصف الشيء المستحيل عقلا وعادة وهو ينقسم إلى قسمين مقبول وغير مقبول فالمقبول لابد أن يقربه الناظم إلى القبول بأداة التقريب، إلا أن يكون الغلو في مدح النبي صلى اللّه عليه وسلم فلا غلو حينئذ ويجب على الناظم أن يسبكه في قالب التخيلات التي تدعو العقل إلى قبولها في أول وهلة كالآية الكريمة فإن إضاءة الزيت من غير مس النار مستحيلة عقلا ولكن لفظة يكاد قربته فصار مقبولا.والقسم الثاني وهو الغلو غير المقبول، كقول ابي نواس: .[سورة النور: الآيات 39- 40]: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}..اللغة: {كَسَرابٍ}: السراب: ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحر كأنه ماء تنعكس فيه البيوت والأشجار وغيرها ويضرب به المثل في الكذب والخداع يقال: هو أخدع من السراب، وسمي سرابا لأنه يتسرب أي يجري كالماء، يقال سرب الفحل أي مضى وسار ويسمى الآل أيضا ولا يكون إلا في البرية والحر فيغتر به الظمآن.{بِقِيعَةٍ}: القيعة بمعنى القاع أو جمع قاع وهو المنبسط المستوي من الأرض وفي الصحاح: والقاع المستوي من الأرض والجمع أقواع وقيعان فصارت الواو ياء لكسر ما قبلها والقيعة مثل القاع وهو أيضا من الواوي وبعضهم يقول هو جمع وقال الهروي: والقيعة جمع القاع مثل جيرة وجار وفي الأساس: هو كسراب بقيعة وبقاع ونزلوا بسراب قيعان ولهم قاعة واسعة وهي عرضة الدار وأهل مكة يسمون سفل الدار القاعة ويقولون: فلان قعد في العسية ووضع قماشه في القاعة، وقال:وفي القاموس والتاج ما يفهم منه أن القاع أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام ويجمع على أقواع وأقوع وقيع وقيعان وقيعة.{لُجِّيٍّ}: اللجي: العميق الكثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم البحر هكذا قال الزمخشري، وقال غيره منسوب إلى اللجة بالتاء وهي أيضا معظمه.
|